السؤال:
هل يمكن في زماننا هذا ان يكون لشخص ان يجمع بين القيادة الدينية والقيادة السياسية كما كان حال الجيل الاول ؟ (على معلمهم افضل الصلاة والتسليم)
أو بعبارة اوضح، هل ننتظر من حركاتنا الاسلامية ان تستلم السلطة كحركة؟ ام تظل الحركة دعوية ويتناوب على السلطة اشخاص يراعون حدود الله؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأخ الكريم السائل عن إمكانية عودة الخلافة الإسلامية برجال اليوم؛ حيث يجمعون بين العلم الشرعي والسياسة الرشيدة.
لا شك بأنّ رسالة الإسلام هي الرسالة التي اختارها الله للناس إلى أن تقوم الساعة، وستبقى هذه الرسالة غَضَّةً طَريَّةً كما أنزلت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والأمّة التي تملك مثل هذه المبادىء التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام. أمّة متجددة فيها وسائل الحياة ومقومات النهوض على مَرّ الأزمان.
ورغم مرارة الظروف التي مرّت بالأمّة، إلا أنها لا تعدم وجود من هو أهل لمَهَامّ هذه الخلافة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) أخرجه الشيخان.
فالخير موجود في الأمّة وإن حجبته أحيانا السياسات الجائرة والأنظمة الطاغية التي أبعدت أهل الصلاح وحاربتهم، وأدنت أهل الفساد والرّشوة ووالتهم، وعندما تتاح الفرصة لأهل الخير ستجد إن شاء الله من الطاقات الذاخرة التي عمل الطغاة على تعطيلها ما يثلج الصدور.
ولنا في ذلك مثلا حيّا؛ هوعمربن عبد العزيز رحمه الله، وهو من بني أميّة، وقد سبقه من الحُكَّام من هو صالح ومن هو دون ذلك، ومع ذلك يوم أن كلّف بالحكم رفض أن يكون ملكا بالوراثة، واعتذر للناس، وأَصَرَّ إن أرادوه أن يكون على منهج الخلافة الراشدة، فسارع الناس إلى بيعته البيعة الشرعية على أن يكون خليفة للمسلمين، وكان أول إجراء اتخذه : أن أصدر قراراً ألغى فيه كلّ الامتيازات التي كانت لبني أميّة من مناصب وعطايا وما إلى ذلك. حتى ثار عليه أقرباؤه، فقالت له إحدى عمّاته: فرحنا بمفدمك لنرفع خسبستنا بك، لا لِتُذِلَّنَا عند الناس، فقال: إنما أعمل لإرضاء ربّي أوّلاً رضي من رضي وسخط من سخط.
وهكذا سار رحمه الله بهدي الكتاب والسنة متبعا سلف الأمّة، على نهج الخلفاء الراشدين، حتى لُقّبَ بخامس الخلفاء الراشدين. وقد سار على نهج جده الثاني؛ عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فوالده عبد العزيز بن مروان، وأمّه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن حسن فعله أن اختار الأخيار من الأمّة وأدناهم إليه، وأبعد عنه الأشرار؛ فكان على رأس من اختارهم: سعيد بن المسيب رحمه الله العالم الزاهد، فكان من مستشاريه. ورغم قصر خلافته التي لم تتجاوز السنتين والنصف،؛ فقد تولّى الخلافة وكان عمره ثمان وثلاثون سنة، وتوفّي وعمره أربعون سنة وخمسة أشهر تقريبا.
كان رحمه الله مثالا للخليفة التقي النقي الطاهر العفيف، حتى عم الخيرُ البلادَ، ولم يعد في المجتمع فقير واحد؛ فقد اكتفى المسلمون وزادت أموال الزكاة حتى فاضت عن حاجة الناس، ومن الصّوَر العجيبة التي ذكرها أهل السّيَر: أنّ الخليفة كلّف من يسير بين الناس ليصيح : من له حاجة إلى الزواج زوجناه، فلم يتعرض له أحد، فكفى الله الأمّة بفضله ثمّ بعدل الحاكم عمّت البركة في الأقوات والزروع والثمار، وعندما يعف الحاكم تعف الرعيّة.
وعندما اشتد على الخليفة المرض، جاءه ابن عمّه مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين ألا توصي لأولادك ؟؛ فإنهم كثيرون وقد أفقرتهم ولم تترك لهم شيئا، فقال الخليفة: وهل أملك شيئا أوصي لهم به ؟!، أم تأمرني أن أعطيهم من مال المسلمين ؟!، والله لا أعطيهم حق أحد وهم بين رجلين، إما أن يكونوا صالحين، فالله يتولّاهم، وإما غير صالحين، فلا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله، ثُمَّ كانت وَصِيّته الأخيرة لأولاده : يا بَنيَّ إنّ أباكم خُيّرَ بين أمرين، بين أن تستغنوا (أي تكونوا أغنياء) ويدخل أبوكم النارَ، وبين أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنّة، فاختار الجنة، يا بَنيَّ حفظكم الله ورزقكم، وقد تركت أمركم إلى الله، وهو يتولى الصالحين. ثم فاضت روحه إلى بارئها رَاضيةً مرضيَّةً.
فالأمّة الإسلامية فيها الأفذاذ وأهل العلم والصلاح والحنكة السياسية، وإليك بعض الأمثلة : أليس من الحنكة السياسية أن تفتح مصرفا إسلاميا في عقر أوروبا، تتحدى به باطل الرّبا وطغيان الرأسماليّة؟، وينجح نجاحا باهراً شهد به أعداء الإسلام قبل أصدقائه.
أليس من الحنكة السياسية أن تؤسس جامعة إسلامية في قلب فرنسا التي استعمرت نصف العالم الإسلامي؟، وتنشىء جيلا إسلاميّاً في أوروبا لا يكون من المهاجرين بل من أصحاب الأرض الأصليين؛ ليكونوا لَبِنَةً مؤمنةً يتمّ من خلالها أسلمة المجتمع في المستقبل؟.
أليس من العبقريّة عندما ضربت الحركة الإسلامية في مصر واضطر الدعاة إلى الهجرة أسّسوا في كل مكان هاجروا إليه نواة للدعوة الإسلامية مالبثت أن كبرت وانتشرت؟.
والأمثلة على ذلك كثيرة لايَتَّسِع المجال لذكرها. إذاً الخير موجود في الأمّة والحمد لله، والمستقبل إن شاء الله سيظهر المزيد من أمثال هؤلاء الخُلَّص، وإن أنكر المنكرون وتشاءم المتشائمون. والله غالب على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.