محمد رشيد رضا – مجلة المنار
قوة الاجتماع والتعاون
الاجتماع والتعاون قوة لا تغلب إلا بقوة مثلها، قوة بها ترتقي أمم وتعتز، وبها يسود قوم على قوم، وبها تنمي الثروة، وبها يتغير شكل الحكومة والدولة، وبها كان كل شيء ويكون كل شيء.
عشرة مجتمعون متعاونون، يغلبون المئين والألوف من المتفرقين المتخاذلين إذا ألفوا شركة مالية قطعت أسباب الكسب على أضعاف أضعافهم في العدد من التجار، وإذا كونوا عصبة للبغي والعدوان سلبوا راحة الألوف من الناس، وإذا قاموا بالأعمال الاجتماعية أحدثوا تغييرًا عظيمًا في العمران، وإذا نشروا العلوم والفنون أفادوا ما لا يفيده الكثيرون من العلماء الأعلام.
لماذا كانت الحكومة الاستبدادية القليل أفرادها أقوى من الأمة الكثير عددها ؟ أليس لأن الحكومة جماعة متعاونة، والأمة أفراد متفرقة ؟ ولماذا كانت الأمة الدستورية أقوى من حكومتها ؟ أليس لاجتماعها على رأي واحد في شكل الحكومة وكيفية سيرها ؟ فإلى متى يظل المنحطون من الأمم والشعوب غافلين عن هذه الحقيقة جاهلين طريق هذه القوة – قوة الاجتماع والتعاون – التي بها يرتفع شأنهم، ويعلو قدرهم، ويساوون تلك الأمم التي ينظرون إليها كما ينظر أهل الأرض إلى الكواكب اللامعة في جو السماء، ويحسدونها على ما أوتيته من السناء والبهاء، وهذه أخبار التأريخ الماضية، وحوادث الأجيال الحاضرة، تعلمهم أن الاجتماع مع التعاون هو القوة التي تذهب بشقائهم، وتشفيهم من أدوائهم، وتحقق لهم أمانيهم التي يتمنون، وتعبر لهم الرؤى الصالحة التي يرون.
لو أردت أن أبين فوائد الاجتماع والتعاون بطرق الخطابة أو الشعر لاحتجت إلى إنشاء الدواوين، ولو أردت أن أجمع الشواهد والوقائع في فضلها لصنفت الأسفار الكثيرة في التواريخ، ولكنني لا أريد هذا ولا ذاك، إن أريد إلا تذكير القارئين بمسألة صارت من الضروريات، لا يحتاج فيها إلى نظم الأدلة وترتيب المقدمات، أريد أن أذكرهم ليعملوا، لا ليعلموا ما لم يكونوا يعلمون، ولا لأجل أن يتسلوا عند الفراغ بما يقرؤون، أريد أن أقول لهم: يا قوم إنكم ضعفاء في العلم وأنتم أذكى الناس أو من أذكاهم، وإنكم فقراء وأنتم أقدر البشر على الكسب أو من أقدرهم، وإنكم مهضومون مستضعفون لغير ذنب تجنون، إلا تفرقكم وتخاذلكم، إنه لا ينقصكم إلا الاجتماع والتعاون فاجتمعوا وتعاونوا، ولا يفرقن بينكم اختلاف ديني ولا جنسي مع العلم بأن الحاجة أو الضرورة تقضي باجتماعكم على ما به قوام مصلحتكم المشتركة.
لا أدعوكم إلى اجتماع مبهم أو خيالي، ولا إلى تعاون مطلق أو إجمالي، بل أدعوكم إلى الاجتماع لإزالة موانع الاجتماع، ثم للتعاون على ترقية شأن الاجتماع بالعلم والثروة، وإعلاء شأن الأمة والدولة، بأن تكونوا أصحاب القدح المعلى الذي يؤهلكم له ذكاؤكم الفطري وأخلاقكم الموروثة التي ينوء بها التأريخ؛ إذ يفاخر بأجدادكم جميع الأمم والشعوب:
يا قوم إن لكم من مجد أولكم إرثًا قد أشفقت أن يفنى ويتقطعا
يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها إني أخاف عليها الأزلم الجذعا
إن الدولة لا ترتقي ولا تعتز إلا بالأمة، وإن الأمة بأخلاقها وعلومها وثروتها، وإن الوراثة أكبر عون للمرء على التربية والعلم والعمل، فتعاونوا على نشر التعليم والتربية، تعاونوا على ترقية الزراعة والصناعة والتجارة، فقد آن لكم أن تخرجوا من مأزق الأعمال الفردية، إلى فضاء الأعمال الاجتماعية، فلو صار واحد منكم أغنى من قارون، وأعلم بالحكمة من لقمان، وأخطب في العلوم الإلهية والحكمة الأدبية من علي بن أبي طالب، وأعدل من عمر بن الخطاب، وأدهى في السياسة العصرية من بسمرك، وأنشط من غليوم؛ لما اعترف لكم أحد بحق، ولا مكنكم أحد من الإصلاح في الأرض، إلا بعد أن تجتمعوا وتتعاونوا.
يجب أن تؤلفوا الشركات المالية ولا تنسوا بها المعنى الاجتماعي الأدبي، لا تنسوا أنكم إذا خلطتم أموالكم بعضها ببعض تختلط أرواحكم بعضها ببعض فيزول سوء تأثير الاختلاف الطبيعي بينكم سواء كان اختلافًا في الدين والمذهب، أو الجنس والمشرب.
يجب أن تؤلفوا الجمعيات العلمية والخيرية لتعميم التربية والتعليم بين جميع الطبقات ليكون أفراد الأمة كسلسلة إذا تحركت حلقة منها تحركت سائر الحلقات.
يجب أن تطالبوا الأغنياء ببذل الإعانات العظيمة لنشر العلم وإنشاء المدارس فمن بخل على الأمة بفضل ماله فعليكم أن تبينوا للأمة أنه عدوها وأنه يجب عليها أن تمقته وتحتقره، وأما من يجود عليها بما يرفع شأنها فعلموها كيف تعظم شأنه وترفع قدره، استعينوا على هذا بالكتاب والشعراء، فهم الذين يربون لكم الأغنياء.
يا أصحاب الأقلام: إن في أيديكم قوة تعمل ما لا تعمل السيوف والمدافع، إن من تعظمونه بالحق يكون قدوة وإمامًا في الخير لأهل عصره، ولمن يأتي من بعده وإن من تحتقرون ولو بالباطل يكون محتقرًا في زمانه ومحتقرًا في التأريخ حتى تستحي ذريته أن تنتسب إليه، فاعرفوا قيمة أنفسكم كما عرفها بشار؛ إذ قال:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تساوي أرنبا
اعرفوا قيمة هذه السلطة المعنوية التي لا تظهر قوتها على كمالها إلا في الجرائد، واستعملوها في إصلاح حال الأمة فبذلك يعلو قدركم، ويرتفع ذكركم، وتنالون من الناس أحسن الشكر، ومن الله تعالى أكبر الأجر.
وأنتم يا أصحاب الجرائد أولى أصحاب الأقلام بهذا العمل؛ لأن صحفكم تجعل لكلامكم من التأثير ما ليس لكلام غيركم الذي لا تقبلون نشره فيها؛ فحرضوا الكُتَّاب والشعراء على هذا الإصلاح، ونوهوا بفضل من يساعدكم عليه، ولا تبالوا بمن عداه بل أدبوه كما تؤدبون بخلاء الأغنياء.
يا أصحاب الجرائد: لا تفتننكم سياسة الحكومة فتجعلوا عنايتكم محصورة في أعمالها وأقوالها، اجعلوا جل عنايتكم في إصلاح حال الأمة، فلن تصلح دولة أمتها جاهلة متخاذلة، فبإصلاح الأمة يتم لكم ما تريدون من إصلاح الحكومة، فهي كل شيء، ويجب أن يكون لأجلها كل شيء.
________________________