من زمان، حين كنا صغارا
كنا نراه دائما في مكانه الذي لا يغادره ابدا
كان يقف هناك متسمّراً في زاوية من المقهى..خفيف الظل.. طلق المحيّا
يبسط صدور بضاعته “النحاسية” التي طالما جذبت إليها الكبير والصغير في القلمون!..
كان غريبا علينا ان ياتي الشتاء بصقيعه وبرده القارس..
ولا ترى تلك الناحية مكتظّة ” باقراص” الناس .. كالنحل .. وقد تحلّقوا حوله أشكالاً وألواناً ..
وهو يمسك “بمجروده” ويقطع “العبيديّة” و “السمسمية” و”النمّورة”..وجوز الهند..ومعمول المد بالجوز والفستق..
ثم يزِينها في اكياس الورق البيضاء .. الناصعة كنصاعة قلبه .. والرقيقة كرقّة كلامه وأدبه .. كانت فرحتنا الكبرى عندما يُطلب منا ان نذهب بعد المغرب لشراء الحلوى من عنده!..
“نطير” كالبرق إليه حتى لا يسبقنا إلى منزله .. فتعود جعبتنا فارغة! .. ولكم عادت!…
اليوم نحن لأيامك يا “أبا سعيد”.. ربما هو حنين للصِغَر
أو لقناعة العيش البسيط الذي ربينا عليه .. وبتنا نفتقده كثيراً حين نفتش عنه في أنفسنا اليوم..
او لعله إنكار واقعنا المصطنع المتعالي! .. الذي أزاحك من امام نواظرنا شيئاً فشيئاً حتى اقعدك في منزلك!..
ما زالت القلمون تعشق عودتك إليها.. وتشتاق بشرتك السمراء..
ونفسك العفيفة!..
وأذواق الناس ما زالت تتوق لحلاوة صنيعك.. وعذوبة كلماتك المطعَّمة ب”لكنةٍ شاميّةٍ” طالما أفرحتنا ودلَلتنا بلباقةٍ ولياقة..خاصةً عندما كان أهلنا يصحبوننا إليك ليلاً..بعد طول “نقٍّ ودقٍّ”
وما زال واحدنا حتى اليوم يمر بالمقاهي .. فينظر حيث كنتَ تقف هناك .. ويتذكر أياماً خلت .. وانقضت! .. فتصرخ نفسونا من أعماقها..”ليتك تعود هنا ثانيةً يا أبا سعيد”!..
(رحمه الله ورزق أهله الصبر والسلوان)
* من ارشيف موقع القلمون في ٢٠١١